
في ظل رؤية المملكة 2030 والتحول الرقمي الذي تشهده المملكة، أصبح الذكاء الاصطناعي قوة دافعة للتغيير في مختلف المجالات، ولا سيما في قطاع التعليم العالي السعودي. ومع أن مفهوم الذكاء الاصطناعي ليس جديدًا، إلا أن الإمكانيات الكامنة وراءه لم تُستكشف بالكامل بعد، مما يجعلنا في بداية رحلة اكتشاف مثيرة تحمل في طياتها العديد من الفرص والتحديات.
يُعتبر تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في مؤسسات التعليم العالي خطوة استراتيجية لتعزيز الكفاءة وتقديم خدمات تعليمية متطورة تتماشى مع متطلبات العصر الرقمي. ومن خلال دمج هذه التكنولوجيا في العمليات الإدارية والتعليمية، تسعى الجامعات والكليات السعودية إلى تحسين تجربة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وتقليل العقبات التي قد تواجههم خلال مسيرتهم الأكاديمية.
وقد بدأ استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي السعودي يتبلور من خلال خمس محاور رئيسية تُشكل مراحل متكاملة من دورة حياة الطالب وتبني التكنولوجيا داخل المؤسسات:
استقطاب الطلاب: يُعد جذب الطلاب المحتملين الخطوة الأولى نحو التحول الرقمي في التعليم. يجب على الجامعات السعودية ان تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز عملية التسجيل، من خلال إرسال رسائل تذكيرية وتنبيهات مخصصة للطلاب المقبولين عبر تطبيقات الهاتف والنظم الإلكترونية. وقد أظهرت التجارب المبكرة في بعض المؤسسات أن هذه الإجراءات تُساهم في تقليل عدد الطلاب الذين لا يكملون إجراءات التسجيل، مما يساعد على بدء رحلة الطالب بسلاسة وثقة.
برامج الدردشة الآلية: أصبحت برامج الدردشة الآلية أو "الشات بوت" أداة أساسية لتحسين تجربة التواصل داخل الحرم الجامعي. تقوم هذه الأنظمة المُعززة بتقنيات الذكاء الاصطناعي بتقديم إجابات فورية على استفسارات الطلاب حول البرامج الدراسية، مواعيد التسجيل، الاختبارات وغيرها من المعلومات المهمة. ويجب على الجامعات السعودية تبني دمج هذه الأنظمة ضمن مواقعها الإلكترونية والتطبيقات الخاصة بها لتوفير خدمة دعم فعالة وسريعة.
تفاعل الطلاب: مع بدء الدراسة، يُصبح تعزيز تفاعل الطلاب داخل الحرم الجامعي أمرًا ضروريًا لتوفير بيئة تعليمية محفزة. في هذا السياق، يجب تبني الجامعات السعودية على تطوير أدوات ذكية تُمكن الطلاب من الحصول على معلومات حول الأنشطة والفعاليات وخدمات الحرم الجامعي، كما ترتبط بعض هذه الأدوات بأنظمة إدارة التعلم لتوفير مصادر دراسية وتنظيم مواعيد تسليم المهام. هذا التفاعل المستمر يساهم في تحسين العملية التعليمية وتوفير تجربة شاملة للطالب.
تحديد المخاطر الأمنية: مع الارتفاع المستمر في كمية البيانات الحساسة التي تحتفظ بها مؤسسات التعليم العالي، يصبح من الضروري تطبيق حلول الأمن السيبراني المتقدمة. يستخدم الذكاء الاصطناعي لمراقبة الأنظمة واكتشاف الشذوذ في البيانات بشكل فوري، مما يمكن الفرق التقنية في الجامعات من تحديد المخاطر الأمنية المحتملة واتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الهجمات الإلكترونية، وبالتالي حماية المعلومات الحيوية للمؤسسة.
مراكز التميز والبحث العلمي: في إطار دعم البحث والابتكار، يمكن تبني الجامعات السعودية إلى تأسيس مراكز تميز متخصصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والابتكار الرقمي. تعمل هذه المراكز كمنارات للبحث العلمي، حيث تُجرى أبحاث متقدمة وتُطوَّر حلول تقنية جديدة تسهم في تحقيق رؤية المملكة في تحويل الاقتصاد الرقمي. وقد بدأت بعض الجامعات الكبرى، مثل جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز، في تبني مثل هذه المبادرات لتأهيل جيل جديد من الباحثين والخبراء قادرين على مواجهة تحديات المستقبل في ميادين متعددة.
أهمية الحوكمة ووضع السياسات: رغم الفرص الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، تبرز أهمية وضع سياسات صارمة لحماية البيانات وتأمين المعلومات الحساسة داخل مؤسسات التعليم العالي. يجب على الجامعات السعودية دراسة "بصمة البيانات" لديها وفهم نوعية البيانات المتوفرة قبل وضع أطر الحوكمة اللازمة، مما يساعد على تجنب المخاطر القانونية والتقنية المحتملة. كما تُحدد هذه السياسات نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، سواء في الواجبات أو الاختبارات، لضمان تحقيق توازن بين الابتكار والحفاظ على القيم التعليمية.
يمثل تبني الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي السعودي نقلة نوعية في طريقة تقديم الخدمات التعليمية والإدارية. يبدأ هذا التحول من استقطاب الطلاب باستخدام التقنيات الذكية، ثم يتواصل من خلال تحسين التواصل عبر برامج الدردشة الآلية، وتعزيز تفاعل الطلاب داخل الحرم الجامعي، وتطبيق حلول أمنية متطورة، وصولاً إلى إنشاء مراكز تميز تدعم البحث والابتكار. وفي نهاية المطاف، يجب أن يرافق هذا التحول وضع سياسات حوكمة صارمة تضمن الاستخدام المسؤول والآمن لهذه التكنولوجيا الثورية، مع بدء حوار مفتوح بين جميع الأطراف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذه الفرص في سياق يتماشى مع رؤية المملكة.
Comments